كرسي صوف: التصميم كفعل للذاكرة في فلسطين
فلسطين
تموز 2022
كرسي صوف هو أداة بحثية تفصيلية أسخّر من خلالها دوري كمصممة معمارية في تطويع الصناعات الشعبية وتوظيف الحرف الريفية معاً لتمكين أشكال المقاومة في فلسطين. ويكون هذا بداية في مقاومة المنظومة الإنتاجية ذات الشكل الإقتصادي الرأسمالي لإيجاد وسائل تنهض بالاقتصاد المحلي وثانياً في مقاومة النمط التجاري المبني على استيراد المواد المصنعة خاصة من الكيان الاسرائيلي، وأخيراً في مقاومة النهج المعرفي المتبع في حرفة النجارة الحديثة التي تساوم على ديمومة المنتجات وأصالة المواد، يأتي هذا البحث إثر حالة التنازع التي تعيشها الهوية الفلسطينية في بناء مفرداتها في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
منذ خريف ٢٠١٩، ومن خلال دراستي في الهندسة المعمارية والتصميم الداخلي، بدأت بحثاً عملياً عن كراسي القش متسائلةً عن سبب استمرار أشكالها التقليدية قبل أن تأخذ بالتلاشي. ومن هنا بدأت البحث عن تاريخ الكرسي لأصمم أنماطاً وأنواعاً متنوعة من النسيج بالصوف مطبقة على أشكال عدة من الكراسي.كان الشكل النهائي للمخرج "كرسي صوفِ" اعتمد شكله على الموروث المادي بينما أتخذ قالباً تصميمياً معاصراً يبحث عن امتداد له في الذاكرة الفلسطينية. أما تنفيذ الكرسي فقد استند إلى تصميم مسارات إنتاجية ذات أشكال فردية متعاقبة مرحلياً وجمعية هوياتياً. كلاهما شكّلَ منهجاً لفهم ثقافة الجمهور والذاكرة وأصالة المواد والبيئة المحيطة، كذلك أوجد دوراً ابداعياً للمصمم مقابل عفوية الحرفة وكم الصناعة.
عن كراسي القش في فلسطين
استخدم كرسي القش في الأماكن العامة في المقاهي والأسواق وفي الأعراس والمآتم والاحتفالات الشعبية وفي داخل المنازل أحيانا. أما الاسم (القش) فيشير إلى استخدام حبال من أوراق النباتات المجففة مثل سعف النخيل أو ورق الموز أو القصب الذي ينمو بجوار البحيرات، وتتنوع الحبال بحسب الغلاف النباتي المحيط في المنطقة التي يعمل بها الكرسي وليس قش القمح الذي يستخدم في أعمال تقشيش الأطباق وأوعية المطبخ. نستطيع أن نعتبر أن الكرسي ينتمي للنجارة العربية في هيكله والصناعة الشعبية في إنتاجه وهويته، وأنه وجد خارج مناهج تدريس نجارة الموبيليا في المعاهد الصناعية التي أنشأتها طوائف دينية لإيواء الأيتام وتعليمهم مهنياً وصناعياً وحرفياً في فلسطين. من أهم هذه المدارس: مدرسة شنيلر من سورية في القدس (1860-1948)، مدرسة الساليزيان في بيت لحم (1863-) ، دار الأيتام الإسلامية الصناعية الحديثة في القدس (1922- ). بالتوازي مع ذلك، هنالك مصادر شحيحة عن حرفة النسيج بحبال القش، مثلاً نرى أحد الطلبة يؤدي نمط النسيج السوري في دار المكفوفين في الخليل 1940 (صورة 1). إن الكم الكبير في إنتاج الكراسي لم تتكون نتيجة مهارات حرفية مستقلة من نجارين ونساجين بالقش أو دور التعليم المهني، لكن في الواقع تم تنفيذها من خلال تجمعات حرفية تحت سقف ورشات ذاع صيتها بين أيدي عائلتي رباح في رام الله وصندوقة في عمان أربعينات القرن الماضي ثم ما لبثت أن تغيرت وجهة مسار هذه الورش لصناعة كراسي الخيزران والموبيليا مستجيبة لطلب السوق المحلي. نجد اليوم حرفيين فرادى تُعزى استمراريتهم الى تناقل الموروث الحرفي العائلي ينتجون غالباً حسب الطلب الشحيح في مدن الضفة الغربية وغزة.
من حيث الشكل، صُنع هيكل الخشب من شجر الحمضيات المحلي ومن ثم الحرجي (الصنوبريات) والآن يُصنع غالباً من خشب معاد التدوير سواء من الخشب الأبيض أو السويد المستورد. أما من حيث المقطع هناك يدوي التشكيل باستخدام القدوم، أو اسطواني الأرجل باستخدام ماكينة الخراطة أو المربع الأرجل باستخدام المنشار الآلي أو اليدوي (صورة 2).
إن أول عائلة عملت على إنتاج كراسي القش بكميات كبيرة هي عائلة رباح في رام الله اثر النكبة، حيث يروي لنا وحيد سلوم أن نسَّاج من عائلة الخليلي من مهجَّري اللد الى رام الله اشتهر بنسج الكراسي بحبال الليف أشار على العائلة أن تصنع الكراسي لتلبية طلب الأفواج المهاجرة. وفي مقابلة مع سالم رباح، يقول أنه عندما قطع الاحتلال الإسرائيلي كهرباء ال (ثلاثة فاز) المولدة من شركة روتنبرغ عام الـ 1948 لمدة عامين لم يتمكنوا من مواصلة عملهم بالنجارة العربية، لذلك استعانوا بمولد شاحنتهم الوحيدة، وقاموا بتركيبه بالتتابع بين ماكينة منشار الحبل لقص الخشب وماكينة أخرى. كانت مراحل الصنع تبدأ بقص شجر الصنوبر المتواجد في أرضهم في رام الله وتنشيفه وتقطيعه وتجميعه بشكل يحاكي كرسي قش قادم من يافا.
كان سالم وأخيه سليمان ينسجوا بحبال التي جلبوها من وادي الباذان، وكانت انتاجيتهم بالطاقة القصوى بسبب كثرة الطلب على الكرسي لدرجة تكسّر بعض الكراسي وذلك لأن الخشب لم يستغرق الوقت الكافي حتى يجف تماماً قبل تشكيله، يذكرنا سالم أنه أثناء النكبة "من كان لديه راديو يفتح قهوة برانية أمام البيت ويفرد هالكراسي وتيجي الناس تقعد تسمع الأخبار بسبب انقطاع الكهرباء في بيوتها". (صورة 3). على عكس الكرسي اليافاوي المصنوعة من شجر الحمضيات (ذي الجودة الأعلى من الخشب الحرجي) وبأرجل المدورة المخروطة، كانت كراسي عائلة رباح مربعة الأرجل بسبب عدم توفر مخرطة لديهم.
أما عائلة صندوقة وعائلة النجار المنحدرين من نفس الجد من مدينة عسقلان، فقد توارثوا مهنة النجارة العربية وعملوا بها لأجيال متعاقبة حتى يومنا (كلا الكنيتين مرتبطتين بأعمال الخشب). اشتهرت عائلة صندوقة بصناعة صناديق العروس، هاجروا أواخر الحكم العثماني من عسقلان إلى الخليل ومن ثم الى القدس وعمّان.في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، أسّست العائلة في المدينتين مشاغل للنجارة العربية متضمّنة صناعة كراسي القش. ثم افتتح رمضان عطا صندوقة مصنعاً متخصصاً بصناعة كراسي الخيزران في عمّان خمسينات القرن الماضي وعملت جميع العائلة لاحقاً في صناعة أثاث الموبيليا. في القدس، كان آخر حرفي عمل في كراسي القش من العائلة هو محفوظ بدوي صندوقة والذي أوقف عمله منذ خمس سنوات.
انحسرت صناعة كراسي القش واستخدامها بعد بدء العائلتين تصنيع كراسي الخيزران وأشكال أخرى من كراسي الظهر. فبينما يخدم كرسي القش الجلوس لمدة تتراوح من ١٠ ل ١٥ دقيقة فقط بسبب الجهد الذي تبذله عضلات العمود الفقري لإبقائها معتدلة الاستقامة، يقلل كرسي الظهر يقلل هذا الجهد ويطيل مدة الجلوس. اقترن ظهور كراسي الظهر بالمائدة ومعاييرها العالمية (بكراسي ذات ارتفاع ٤٥٠ ميليمتر) وتطبيق أشكال من الأثاث من الكتالوجات الأوروبية المستوردة فترة السبعينات وحتى التسعينات. كما ازداد الطلب على غرف النوم والسفرة وكراسيها بسبب تحور الأنماط الداخلية للمنازل، حيث لم يعد كرسي القش موائماً للبيئة المستجدة خاصة في المدن. على اثر ذلك استوردت عائلة رباح مصنع ثني الخشب على البخار عام 1957 وبدأت بتصنيع كراسي الخيزران بكميات كبيرة محاكين نموذجاً كرسي من الشام (دمشق). والاسم "كرسي الخيزران" وصفي بسبب شكل الكرسي الشبيه بالخيزران في انحنائه لكنه مصنوع من خشب الزان. كما صنع آل صندوقة نفس النموذج في نفس الفترة وبكميات كبيرة. كما ظهرت تصنيعات لكراسي وأثاث معدني، خاصة المنتجة من عائلة معايعة في بيت لحم منتصف ستينات القرن الماضي. أدّت كل هذه الأسباب توقف الطلب على كرسي القش مقابل ظهور كراسي الظهر المختلفة.
تاريخياً تحولت النجارة العربية من حرفة يدوية بسيطة تخدم المجتمع الزراعي الإقطاعي خلال حكم الدولة العثمانية إلى ورشات نجارة يديرها الأعيان أو الجيش لتخدم حاجات المستعمر البريطاني وتدعم اقتصادها الرأسمالي، ثم تتشكل مرة اخرى إثر النكبة تحت نطاق عائلي ذات شكل اقتصادي رأسمالي أو الى نجارين مستقلين يعملون بالنجارة الحديثة - الموبيليا- غالباً تخرجوا من مدارس مهنية أو تعلمو على أيدي هؤلاء.
في ضوء ما سبق نستطيع أن نحدد كيف انتقل كرسي القش من إنتاج حرفي يدوي وفردي محدود الى إنتاج كمي تحت إطار ورش تجميعات حرفية عائلية التي شغلت عاملين تحت سقفها، كلا المنظومتين تعتبر صناعة الكرسي شعبية عائلية ذات سمات مؤسسة رأسمالية تمتلك وسائل إنتاجها وتتحكم به. أما المعايير الشكلية للكرسي كانت بنَسخ الحرفيّ للأنماط التي وصلته عن طريق التجارة أو الهجرة وقد يقوم البعض بتطويرها أو تحويرها بحسب أدوات النجارة المتاحة لديه، وبالتالي يعيد إنتاجها فمثلاً في كثير من الحالات يقوم الحرفي بتفكيك أجزاء القطعة ويعيد إنتاجها.
تقدّم لنا قصة التصنيع التقليدي لكراسي القش في فلسطين نوعين من المرونة في الموروث التصميمي المتأصّل بالحرف والتي غالباً ما يتم تجاهلها في دراسات التراث أو التصميم المعاصر. المرونة الأولى عمودية وتتمثل في تقلبات التصميم والإنتاج كرد على تغيّر محددات وتحدّيات كل مرحلة إنتاج. فبرغم الاختلاف الجذري لنوع المواد وتنويعات التصميم، كان للكرسي اليافاوي دور بتشكيل هوية كراسي الخشب الحرجي في رام الله على يد عائلة رباح. أما المرونة الثانية فهي أفقية وتتمثل في تنوع وارتباط جغرافيات الإنتاج إما بهجرات عائلات حرفية أو بهجرة التصميم نفسه كمسطرة أو نموذج من مكان لآخر بين الدول العربية حيث نجد كرسي سوريا ومصر في فلسطين وكراسي فلسطين في الأردن ولبنان. يقول سالم رباح أنهم كانوا يقطعون فلسطين في يوم واحد شمالاً جنوباً وشرقاً غرباً كي يتقاضون أجرة بيع كراسي الخيزران (صورة 4).
مع انتقال العمل التصميمي من الحرفي للمصمم وسلخ التصميم عن الإنتاج، تم تجميد هذه المرونة بقوالب تراثية تاريخية. حولت هذه القوالب كرسي القش إلى ذاكرة مجتزأة بنموذج الكرسي التاريخي والذي لا يمكن المساس بتصميمه أو مواده، أو الى ذاكرة حائرة قد تستطيع تمييز غنى المنتج التاريخي لكنها غير قادرة على تخيل تصنيعه بأدوات اليوم. كذلك نلاحظ العامل الشعبوي من حيث التصميم ومحدوديته التي تنتهي بتغير الطلب. هنا أؤمن بدور المصمم اليوم القادر على إعادة جسر الهوة بين الذاكرة والتصميم، من خلال العمل على الوصل بين الدراسات التاريخية والوظيفية والاجتماعية المرتبطة بالحرف ومنتجاتها من جهة وعلى الاشتباك بالعمل اليدوي مع الحرف وتعلمها، ومع تفكيكها وتطويرها، ومع تخيّل جديدها وتأصيله.
كرسي صوف كأداة مقاومة
لم يصمد كرسي القش أمام المنظومتين الرأسمالية والإنتاجية ومواكبة المتطلبات العصرية، فغابت حرفة النجارة العربية واستعمال المواد المحلية. على الرغم من اعتباره اليوم جزءاً من المفردات المادية المشكلة للهوية الفلسطينية فهو آخذ بالانقطاع. كجزء من عملي البحثي والتصميمي، قمت بتصميم كرسي صوف كأداة تجريبية باحثة عن منظومة مجتمعية وجمعية لعملية إنتاج نواتها مصممين مشتبكين مع سؤال الذاكرة والمستقبل ، معتمدين على عمل يدوي حرفي مندمج مع الصناعات والخامات الأولية في محليتها من جهة ومواكبة تحدّياتالبيئة المعاصرة من جهة ثانية. تتسم بنية الكرسي في تصميمه ومراحل إنتاجه بمقاومته على عدة مستويات، ويتسم بارتباطه بمواد وتصنيع واعي للمحددات البيئية، يتطلب عمل الكرسي على الأقل تسعة أيدي عاملة ويمر بثلاثة مدن، وفيما يلي توضيح لأطر التصميم المقاوم من خلال الكرسي؛
أولاً مقاومة النمط التجاري في استيراد مواد مصنعة ضارة بالبيئة وتوليد اقتصاد دائري كبديل عن هذا النمط؛ اعتمد كرسي القش على الخشب المحلي في هيكله وعلى حبال القش في نسيجه، المصنوعة من ألياف وأوراق النخيل والموز وغيرها بحسب الغطاء النباتي للمنطقة جغرافياً. حالياً يتم استيراد حبال القش من الكيان الاسرائيلي الأمر الذي يشوه أصالة المواد التي استخدمت أساساً في تصنيع الكرسي يتسم بمحلية مواده التي سخرها المحليون لتلبية حاجاتهم، وهذا دعاني لإعادة التفكير بالمادة نفسها وإيجاد بديل محلّي عنها.
قمت باستبدال القش بالصوف العضوي المحلي (صورة 5،6) للإعتماد على خامة محلية أولاً وإستعادة المكانة القديمة التقليدية المنتفع بها في أغراض المعيشة والفلاحة. استخدم الصوف تاريخياً في الطب والمداواة الشعبية ودخل في أشكال المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، من أهمها نسج مقليعة رمي الحجارة . تضاءل استخدامه بسبب استيراد السوق المحلي الخيوط المصنعة والبلاستيكية التي استبدلت كثيراً من الأدوات والملابس اليدوية الصنع واستيراد عائلة رباح آلة -مصنع- الاسفنج في رام الله ومعايعة في بيت لحم الذي استبدل فرشات ولحف الصوف البلدي إلى هجران الصوف لدرجة رميه أو حرقه من قبل مربي الأغنام. في الكراسي أوظف الصوف بتطبيق محدث وهو قابليته أن يتحمل أوزاناً وأن يأخذ شكل الجسم ويكون نفاذياً خلافا لتنجيد الأسفنج. أما بالنسبة للخشب استخدم خشب الزان المستورد وذلك لشح الأشجار الحرجية في فلسطين.
ثانياً مقاومة منظومة الصناعة الإنتاجية الرأسمالية، من خلال منظومة ذات هوية جمعية تشرك فئات مجتمعية وحرفية متعددة تنتقل أجزاء الكرسي فيها من محطة إلى أخرى. كل محطة في هذه الرحلة متخصصة في عملها الحرفي المتوارث أو المكتسب وتمتلك وسائل إنتاجها تحت سقفها سواء بالمنزل أو بمشغلها الخاص، على خلاف النمط الصناعي المبني على منشأة المكان الواحد ذات شكل الإنتاج الرأسمالي، هنا أيضاُ أفكك النمط الحرفي العائلي المبني على الحصرية في العلم والإنتاجية الى نمط حرفي وصناعي وتصميمي في نفس الوقت.
قمت بتصميم مسارات انتاجية تعمل بالتوازي مستنده أغلبها على العمل اليدوي، ومهارات بسيطة ومواد أولية غير معقدة؛ المسار الأول هو الصوف استند هنا على رواية باللهجة البدوية من الخان الأحمر، وهي قرية فلسطينية بدوية محتلة في محافظة القدس، لتجهيز الصوف (كنّ يجزنّه، يُنظفنَّه، يُضرِبنَّه، يسحبنَّ، يُصبِغنَّه، يُغزلنَّه، يُبرمنَّه، يُمدِّنَّه، يُصبِغنَّه، يُنسجِنَّه) (صور7-14)، المسار الثاني هو تنفيذ الهيكل الخشبي ابتداءً بالنجّار والخرّاط ثم النجّار مرة أخرى لتجميع أجزاء الكرسي وحفه ثم الدهّان (صور 15-19) يلتقي المسار الأول والثاني عند الطرف الثالث ألا وهو المصمّم لمعاينة المواد واستخدامها لعمل تصاميم تحفز الذاكرة مستلهمة من منسوجات مجتمعنا البدوي والفلاحي الفلسطيني (صورة 20). وهنا فيديو قصير يعرض بعض مراحل الصنع: https://www.instagram.com/reel/Cf030rYFqJ8/?utm_source=ig_web_copy_link
من أهم مميزات هذه المنظومة إنعاش الدخل المحلي باعتماده على العمالة الماهرة من المناطق الحضرية والبدوية ومن كلا الجنسين وبالأخص إشراك السيدات في ممارسة ما تركوه أولاً وضم جيل جديد ليمارسوا النسيج بطريقة مختلفة. حتى الان تعمل معي ثلاثة سيدات من بدو وقرى أريحا والخليل لغزل الصوف وتجهيزه. من هنا تتغير علاقات قوى هيكلية الإنتاج ويعاد تشكيلها وتتوزع في جميع المحطات بالتوازي، لكن ينتقل القرار النهائي في يد المصمم الذي يستطيع تسخيرها في بناء منظومة مقاوِمة، فبالتالي تحوّل هذه المنظومة مركزية الرأسمالية الى جمعية محلية في هويتها الإنتاجية والذي يتعذر استمرارها في غياب أياً من هذه المحطات. كذلك في توسعة ورسم شبكة جغرافية متجددة الحدود تربط بين حرفيي التجمعات البدوية والقروية مع حرفيي وصناع المدن.
ثالثاً مقاومة النهج المعرفي في النجارة الحديثة؛ نلاحظ أن النجارة العربية هي الحرفة المتبعة في تجميع هيكل كرسي القش، كنّا نراها أيضا في الشبابيك والأبواب وأثاث المنزل الريفي البسيط مثل النمليات وصناديق العروس والطاولات القصيرة وخزانة للملابس اضافة الى أدوات الفلاحة والزراعة. تبين من خلال البحث أنه تم هجران النجارة العربية عقب البدء بممارسة النجارة الحديثة - الموبيليا - مطلع ستينات القرن الماضي وذلك لأن الأولى تتطلب إحكام بالقياسات وحرفية عالية في التنفيذ، اضافة الى دخول جيل جديد من الممارسين الذين لم يتلقوا دراسة مهنية تزامنا مع فقدان الكثير من الحرفيين المحليين إثر النكبة.
يحاكي كرسي الصوف نفس المنهجية ويقاوم النجارة الحديثة القائمة على استخدام الوصلات المعدنية من دبابيس وبراغي وزوايا حاملة. لذلك اتبعت أسلوب النجارة العربية المستخدمة قديمًا في التلسين وتعشيق الوصلات الداخلية كي تربط قطع الخشب (صورة 21) وكان يتم لصقها بـ غراء عظام الحيوانات المجفف، حيث يتم تذويبها على البخار وتشكل مادة لاصقة قوية جدا ذات ديمومة عالية. أيضاً من الملامح التي استخدمتها في التصميم هي كشف الوصلات الخشبية، استناداً على أهم الحركات التي دعت إلى إحياء هذا الأسلوب هي حركة الفنون والحرف أواسط القرن التاسع عشر في بريطانيا، التي كشفت أنماطاً عدة من الوصلات الخشبية كشكل جمالي وتم اعادة احيائها في وقتنا المعاصر.
استطاع التصميم الجديد أن يجوب ستة مدن زودتني بسمات أولية للشكل الثقافي للصناعة المحلية ومهنية النجارة العربية خاصة والخراطة ومشاكل الصناعة وتحدياتها أمام المصمم، ثلاثة مدن استجابت لتنفيذ الهيكل الخشبي: إبتداءً بمدينة رام الله ثم نابلس وأخيراً بيت لحم. أوصيت بتنفيذ الهيكل الخشبي من احدى وعشرين منشأة تنوعت بين ورش نجارين ومصانع ومخارط، لتنفيذ نفس مواصفات الهيكل الخشبي، قبِل منهم ثلاثة عشر بتنفيذه في حين رفضه البقية بسبب طلب أرجل الكرسي مخروطية الشكل أو بسبب صعوبة تجميعه على أسلوب النجارة العربية. وهي تحويل القطع الخشبية المربعة الى مدورة ويتم ذلك بتثبيتها على ماكينة تقوم بتحريك الرجل حول محورها الطولي بسرعة يليها خرط الخشب إما يدوياً باستخدام سكين أو اتوماتيكياً بواسطة الماكينة. على الرغم من أن الخراطة استخدمت بكثرة في كراسي القش والموبيليا سابقاً غير أن هنالك قلة قليلة تعمل بالخراطة الآن بسبب أجرتها المرتفعة وصعوبة العمل بها. وظيفياً تقلل الخراطة ثلث وزن هيكل الكرسي مربع المقطع محافظة بذلك على متانته وقوة تحمله وموائماً لفضاءاتنا الداخلية . حصلت على عينات من ثمانية منشآت ذات اختلافات متعددة وتفاوت كبير في دقة التنفيذ والمواصفات ومشاكل في ضبط أبعاد الكرسي، أما من طابق التصميم تماماً كانت منشأة واحدة فقط.
كان تصميمي لكرسي الصوف جزءا من مسيرتي في الممارسات التصميمية والبحثية والفنية التي تتناول موضوع الحرف اليدوية ونسيج البساط الفلسطيني، أذكر أولها:
"سجادتي الغائبة" https://vimeo.com/492039207 عام 2020، فلم قصير يكشف جزء من التحول في الدخل المحلي للمجتمع البدوي والفلاحي وتبدل الأدوات المنتفع بها من يدوية الصنع الى مصنّعة مستورَدة. يسرد الفيلم الحرف المفقودة والأسلاك الشائكة والأغنام المسمومة، ويروي غياب السجادة في منزلي، مما يكشف بعض التعقيدات والحقائق المعاصرة للشتات الفلسطيني وهجرة المحليين للمواد التي اعتادوا استخدامها.
"كرسي نول - كرسي نوستالجيا"2021 (صورة 23) أهدف من خلال هذا الكرسي تسليط الضوء على النول الأرضي التقليدي كأداة وحرفة متوارثة. تمت تسمية المشروع انطلاقا من فكرة استعادة آلة النول ونسج البساط كحرفة أخذه بالاندثار في الذاكرة الفلسطينية. آلة النسيج هذه تكشف أجزاء النول الأرضي التقليدي وتضمينه في كرسي ذات ظهر؛ (صورة 24) خيطان العمودية (خيوط السَدو) تؤلف المقعد ويتم نسجها بخيطان (اللُّحمة) أما الخيطان العمودية المسؤولة عن فصل الخيوط العلوية والسفلية (خيوط النيرة) تؤلف الظهر. يتحرك الأخير أفقيًا على امتداد اسطوانة خشبية من الأمام إلى الخلف للسماح بالنسيج. وبالتالي، لا يلزم تثبيت أي قماش على هيكل الكرسي. بدلاً من ذلك ، تكون الأجزاء مكشوفة وفي حدها الأدنى لتخدم الشكل من الناحية الجمالية وتحافظ على الآلية حية وحاضرة. قمت بتصميم هذا المشروع ضمن إقامة منحة الفنون البصرية في مؤسسة عبدالمحسن القطان وتم عرض الكراسي في معرض جماعي في غاليري وان في شتاء 2021.
"ماذا تبقى"2022، (صورة 25) عمل فني تركيبي في معرض صالونات في مؤسسة عبد المحسن القطان. أعرض حجرة معبرة عن النسيج الذي تأصل في التراث الريفي والآن أخذ بالاندثار مع رحيل كبار سيدات الريف والبداوة اللاتي ورِثن الحرفة عن جداتهن واستخدمن الصوف للانتفاع المنزلي والزراعي. يعبر العمل عن الجهد والوقت المضني في العمل وكثرة المراحل التي تتطلبها. من خلال العمل الفني ، أحث المراقب على النظر بعيون مختلفة إلى الخيوط المغزولة وعملية النسيج في السجادة التي اعتدنا على رؤيتها في الصالون. أقوم بتفكيك ارتباطنا بهذا الرمز الأيقوني من خلال نقض النسيج لأنه يولد شعورًا بالخوف يتركنا نفكر في ما تبقى لدينا.
في مجمل هذه التجربة التي كانت ولا تزال جزءاً من عملي التصميمي في سؤال الذاكرة وتعزز الوجود الفلسطيني فكرياً وهوياتياً على الصعيدين المحلي والعالمي، فإن كل قطعة تجوب العالم تنقل رواية مادية إلى جانب الخطاب المكتوب أو المرئي الفلسطيني، مضيفةً إلى مجمَل الإنتاج الفكري أشكالا جديدة من الاقتصاد المحلي المقاوم وتوظف القدرات المحلية في أقصى إمكانياتها لتواكب العالم مضمنة شكلا من أشكال الهوية الفلسطينية البصرية في ظل الظروف المقيّدة التي يستبيح الأحتلال سرقتها من موروثنا الثقافي والمادي الفلسطيني.