في رحاب الحكاية المعماريّة: قصّة مشربيّة
عمرو الصفتي
" إنه قلقي على القريب العزيز الذي ظنناه قد مات فسلمنا بقضاء الله، و إذا بقلبه ينبض ضعيفا فتشتد بنا اللهفة. قد تكون إرادة المولى في أن يعود إلى الحياة "
خطَّ الكاتب تلك السطور الراجية في مسرحيته " قصة مشربية " قاصداً العمارة العربية التقليدية على لسان البطل الذي خلِّده الكاتب إسماً و فعلاً، "خالد".
"خالد"، ذلك المواطن القابض على جذور ثقافته المصرية و القادر على استيعاب وتذوق ثقافات الغير دون الشعور بالضآلة أو الدونية، الذي يتألم كل يوم في صمتٍ عزيزٍ على أصالةٍ مفقودةٍ وقيمٍ مهدرة، الذي يشعر بالنبذ والاغتراب في وطنه رغم انتمائه لهذه الأرض انتماءً صادقاً عميقاً والذي يجزع من إصابة شعبه بالأمية الإبداعية وصرعته أمام لعنة الاستهلاك، ورغم كل ذلك يأبى "خالد" الخضوع والانسحاق تحت عجلات العولمة غير الإنسانية.
فخالد هو ذلك النموذج للمعماري المصري الذي يصبو الكاتب إلى رؤيته في كل المعماريين، و هو بالتأكيد كاتب المسرحية شيخ المعماريين المصريين الراحل الكبير "حسن فتحي".
يستمر "حسن فتحي" في وصف حاله على لسان "خالد" فيقول و هو يتفقد دكان "الحاج ابراهيم" العتيق المليء بالنفائس المعمارية القديمة من مشربيات وأبواب خشبية وقطع من الرخام والفسيفساء وبقايا أعمدة وركام من الحجارة،
" أشعر أنني في كنز مدفون بين خرائب "
في كل منا أصالةٌ دفينةٌ نستشعرها حين نحاط بما يعززها، فحين نتجول في المناطق القديمة كالقاهرة المملوكية أو رشيد أو الأقصر أو ما نَدَر من المناطق الحديثة كالقرنة الجديدة التي شيدها "حسن فتحي", يتعزز لدينا الشعور بالأصالة والانتماء الثقافي والمعماري للمكان.
فالأصالة ليست اجترار الماضي والافتخار بما كان، وليست الحرص على التمايز المصطنع، كما أنها ليست التقوقع على الذات والنفور من الرؤى المختلفة. إنما هي المحافظة على هوية وبصمة المجتمع المرتبطة ببيئته وجغرافيته ومساره التاريخي، و اكتشاف دوافع التقدم في وجدانه, و العمل على تواصله المتجانس مع الأزمنة، كي يكون حاضره مستمداً من ماضيه ومستقبله مستمداً من حاضره.
و تكمن القيمة الفعلية الملموسة للأصالة في التواصل الزمني المتجانس للمجتمع، إذ أن بالأصالة نتخلص من معوقات التقدم و نستأصل الجذور التاريخية للتخلف المجتمعي المتراكم، فيعاصر المجتمع زمنه بيسرٍ و رسوخ، و يستقبل المستحدثات بتلقائية و رؤية واعية دون تخبط أو عشوائية.
و للأسف فالمتبقي من تلك المناطق الأصيلة ليس إلا ملامح مشوهة في طريقها للاندثار، فقد أصبحنا محاطين بكتلٍ خرسانيةٍ صماءٍ تبث روحاً جامدةً و ترسخ القبح كأحد الثوابت التي يترعرع فيها الإنسان فتموت بداخله لذة تذوق الإبداع و ممارسته، ويغدو جامداً فظاً كما البيئة التي تحيطه وتجثو على صدره.
فصارت القيمة والأصالة كنزاً مدفوناً يندثر يوماً تلو الآخر معلناً انسحاقه أمام غولٍ من الخرائب الرمادية الباهتة.
يخاطب "الحاج ابراهيم" زبونه "خالد" و صديقته الأجنبية "هيلين" بقوله:
" لو رأيتما هذا الباب قبل أن أنظفه لما عنيتما بالنظر إليه, لقد أزلت من عليه ثلاث طبقات من البوية ( كان مدهون ريبولان ) و تحته (بوية) زيت من كل الألوان و في الأخر نقش تركي, ورد و زهريات إنما كان عجيب جداً. و لإزالة كل هذا أحضرت نجارا فك هذا الباب قطعة قطعة – نجار فني – و غسلناه بالبطاس. هذا هو الكنز الذي كان مدفونا تحت (الريبولان) "
إن أردنا العودة للأصالة فعلينا تفعيل مساراتها، ومنها أن ننفض ما علق بتراثنا من تراب ونهتم بمعالجته و ترميمه بالطرق العلمية ورفعه لمكانته التي يستحقها في تثقيف المجتمع و تشكيله.
وينبهنا المعماري الكبير أن للترميم أصول وقواعد علمية يجب تبنيها والعمل بها، فهو عملية فنية تحتاج إلى عمال وفنيين مهرة قادرين على إعادة الأثر أو القطعة الأصلية أقرب ما يكون إلى هيئتها الأولى دون تشويهٍ أو إضافة، وذلك بدراسة القطعة و فحصها ثم وضع خطة ترميم بناء على نتائج الفحص ومن ثم استعمال مواد وأدوات مناسبة للمادة المراد ترميمها. وقد سرد تلك العملية العلمية في بساطة و سلاسة عبقرية على لسان "الحاج ابراهيم".
ويعد الترميم أحد عناصر توطين روح الأصالة المعمارية في المجتمع، فللأصالة عناصر يتوجب تفعيلها علمياً كي نحصل على نتائج قيمة، كالترميم، و التصميم الفراغي – الذي هو جوهر الهوية المعمارية – واعتماد مواد البناء المحلية، وتوظيف النظم الإنشائية لتتوافق بيئياً مع المحيط.
و قد أُهمِلَت عناصر تفعيل الأصالة المعمارية في محيطنا العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر نتيجة الفهم الخاطىء لمصطلح المعاصرة، فالمعاصرة ليست نقل أحدث صيحات العصر في الفن والمعمار وأساليب الحياة، وليست الحرص على العَيش في إطار أحدث الأفكار والنظريات، كما أنها ليست قطع الصلة بالماضي والانخراط في التقليد والتغريب. إنما هي مجابهة مشكلات الواقع الزمني للمجتمع، و عدم إغفال شىء من مكوناته، والبحث عن الحلول الجذرية لقضاياه الأساسية، كي لا يصير مجتمعاً سائغاً مستسلماً للواقع الاستهلاكي ذو قشرة حضارية زائفة.
يرد "المعلم اسماعيل" و هو أحد آخر أربعة معلمين في صناعة الشبابيك الجبس على تساؤل "خالد" فيقول:
" مضى علي ثلاثة شهور و أنا متعطل, ليس عندي عمل و آخره كان في القدس حين أرسلتني مصلحة الآثار لإصلاح بعض شبابيك قبة الصخرة "
يناشدنا "حسن فتحي" بالعودة للجذور ويحث فينا الرغبة في الانتصار للأصالة والإبداع الذاتي عن طريق ربط الرموز الدينية بالمهن المعمارية الأصيلة، إذ أن المؤثر الديني يتجلَّى في عناصر التكوين المعماري العربي سواءً الفراغي أو الزخرفي، و قد ابتكر الوعي المجتمعي العربي العديد من المهن الأصيلة المرتبطة بالعمارة الدينية. كما ينبهنا إلى خطر قريب من تهاوي أحد الرموز المعمارية الدينية نتيجة تهاوي الشخصية العربية المغتربة والمستغرقة في التبعية.
وفي سياق ذكر القدس فإن الخطوات الجادة والسريعة مطلوبة من المعماريين العرب في مواجهة مخططات صهيَنة المدينة والقضاء على عمائرها وتراثها العربي بشقيه الإسلامي والمسيحي. هي قضية مصيرية على الصعيد المعماري كما غيره، فشواهد الشخصية المعمارية لأزهى عصور الثقافة العربية في المدينة مهددة بالضياع.
تصف حالنا الضيفة الأجنبية "هيلين" موجهة حديثها إلى "خالد" قائلةً:
" مثلكم مثل أم علاء الدين حين استبدلت المصباح السحري الذي له خادم من الجان بمصباح عادي من الصفيح لا يساوي أكثر من بضعة قروش"
فمهما دعكنا في المصباح لن يظهر الجني ومهما استنفرنا طاقاتنا لن نكون قادرين على الإنتاج والعطاء الثقافي الحقيقي طالما نعيش داخل تلك الكتل الخرسانية العمياء. فإنما فقدت الأصالة في بلاد الريادة المعمارية نتيجة التنصل من جذور الثقافة المصرية التي نبعت من وجدان المعماري والحرفي, والتي تمحورت حول تفاعلاتهما البينية مع الكون والبيئة المحيطة. فيما استئصال العناصر المعمارية الأصيلة من التكوينات المعمارية واستعاضتها بأجهزة تكنولوجية حديثة يؤدي إلى خلق فراغ ثقافي كبير في تكوين الإنسان المصري.
و تأتي الحكمة على لسان الصديقة الأجنبية المخلصة لصديقها وللعلم، إذ أن العالم اليوم يستصوب مبادئ التكنولوجيا الملائمة، فالوعي بمحدودية الموارد، والحرص على الاقتصاد في الطاقة، والعودة إلى الحكمة التراثية، والسعي إلى عمارة ملائمة لمحيطها أصبحت اليوم اهتمامات عالمية عامة.
هذا ويعدّ "حسن فتحي" واحداً من رواد الهندسة البيئية وقد سبقت أفكاره ظهور مثل ذلك الاتجاه و تبلوره بشكل مادة علمية قابلة للتدريس في الجامعات. و قد طبَّق ما آمن به من أفكار تطبيقاً عملياً في تصميم و تنفيذ أعماله، مثل قرية القرنة الجديدة والتي كان يتمنى أن تنتشر نظريتة البنائية التي طبقها بها في باقي قرى الريف المصري ولكن لم يكتب لها النجاح بسبب التحولات الاجتماعية الكبيرة في حياة الريف، وغَلَبَة ثقافة الاستهلاك، والاحتفاء بالخصوصية الفردية.
وقد اعتمدت نظريته البنائية على استخدام مادة الطين المتوفرة محلياً توفيراً للنفقات وترابطاً مع البيئة المحيطة، تنفيذ البناء بالمجهودات الذاتية للسكان زيادةً في الترابط الاجتماعي، تفعيل العناصر المعمارية العربية بشكل وظيفي كالقباب والأفنية الداخلية، اعتماد التخطيط المعماري غير المنتظم والتشكيلات البصرية للأفنية الخارجية للمجموعات السكنية بهدف استعادة ملامح القرية التلقائية العفوية بنهج معماري مدروس، توليد قيمة إنتاجية للقرية عن طريق تزويدها بمركز تدريب وخان للحرف يضم مجموعة من الورش والمساكن ومعرض للمنتجات، وإضافة قيمة صحية وقائية للقرية عن طريق إنشاء بحيرة صناعية للوقاية من مرض البلهارسيا المنتشر في الريف المصري آنذاك.
ختاماً فإن من وصايا "حسن فتحي" أنه مهما تكن معدلات التقدم التكنولوجي سريعة ومهما يكن التغير الاقتصادي جذرياً، فإنه يجب على الإنسان أن يُخضِع معدلات التغير لطبيعته هو نفسه لا أن يُخضِع نفسَه لها. فهل فعلنا ذلك؟
قد يأتي الجواب على لسان "رفيعة" خطيبة "خالد" المعاصرة، إذ يدعوها إلى حفل شاي عربي في منزل "الحاج ابراهيم" يستمعون فيه إلى قصة المشربية فتعتذر له قائلة بتهكم:
" أعفني يا خالد فأنا على موعد إلى السينما "
عن الكاتب
عمرو الصفتي هو معماري مهتم بالتاريخ والتراث والترميم المعماري ويبحث في عمليات الفحص المعماري وتوثيق التراث بالطرق الحديثة كالتصوير الفوتوجرامتري والمسح الليزري.
قراءات ذات صلة