تمهيد: عن الالتفات إلى البنية التحتية والتفكير من خلال التعتيم
يُثير انقطاع الكهرباء (التعتيم)، مهما كان مقلقاً، وقائع ومشاعر وتخيلات متناقضة…
قد يكون انقطاع الكهرباء بمثابة هدوء مفاجئ، أو خمود ينصبّ عندها اهتمامنا على ما هو في الخلفية،
وقد يُشير انقطاع الكهرباء إلى خلل يراه البعض استثنائياً ومؤقتاً ويراه آخرون عادياً ومستمراً.
قد يكون انقطاع الكهرباء غيضاً من فيض عدم الكفاءة والتخلي السياسي،
وقد يكون عنفاً وهجوماً مستهدفاً محسوباً بدقة.
يشير التعتيم إلى فقدان الوعي أو البصر أو الذاكرة، وهي لحظة ارتباك في الزمان والمكان.
في ظل انقطاع الكهرباء، في ظل التعتيم، قد نشعر بالرعب والاستسلام.
في ظل انقطاع الكهرباء، عندما يسدل الظلام غطاءه، يمكننا تخيل المنافذ والحلول المؤقتة والمُرقِّعة والبديلة للاستمرار.
ربما يكون انقطاع الكهرباء بمثابة استعارة مناسبة للحظة المعاصرة في ما يسمى بالعالم العربي، زمن الظلام السياسي الذي يتبع، أو بالأحرى يصاحب، الوعد بالتحرر الثوري. في أعقاب الانتفاضات الشعبية التي انتشرت كالنار في الهشيم وهزَّت الحكم الاستبدادي من تونس إلى البحرين، غرقت المنطقة مرة أخرى في زمن الثورة المضادة، وتمترس الاستبداد من جديد خلف حروب إمبريالية وطائفية وأزمات اقتصادية متفاقمة وتهجير قسري ودمار بيئي.
أما لأولئك المتلقين لأشكال العنف هذه، فليس التعتيم أمراً مجازياً على الإطلاق: بينما كنا بصدد الانتهاء من هذا العدد الخاص، اندلعت اشتباكات مسلحة في العاصمة السودانية وبالكاد تمكن أصدقاؤنا في الخرطوم من الحديث عن انقطاع الكهرباء وسط القصف والقتال وعدم اليقين. ولا يزال الفلسطينيون في غزة يعانون من ما يقارب العقدين من الحصار الاستعماري والقصف العسكري الإسرائيلي، كانت إحدى نتائجه عجْزاً مزمناً في الكهرباء يعاني منه الناس عواقب وخيمة. وبعد أن دمرت الحروب الامبريالية العراق وليبيا، يواصل الشعبان احتجاجاتهم المنتظمة على انقطاع الكهرباء المستمر لمدة تصل إلى 18 ساعة رغم تصدّر البلدين أعلى احتياطيات النفط في العالم. أما في سوريا، حيث سحق النظام الحالي الزخم الثوري، تستمر الولايات المتحدة في نهب احتياطيات النفط ويستمر شح الوقود لتشغيل مولدات الكهرباء للمصانع والجامعات حيث أصبح انقطاع الكهرباء اليومي لفترات طويلة أمراً روتينياً في دمشق. وساهم نقص الكهرباء في اليمن في تفاقم المجاعة وغيرها من الآثار الوخيمة للحصار السعودي. وقبل الانفجار في مرفأ بيروت، اعتادت شوارع العاصمة على الظلال الليلية وطنين مولدات الكهرباء التي تبكي من الفساد المزمن. وخلال كل هذا، يواصل اللاجئون والعمال المهاجرون في جميع أنحاء المنطقة العيش في أماكن إقامة مؤقتة غالباً ما تكون غير آمنة ومكتظة ومفتقرة إلى المرافق الأساسية مثل الكهرباء، خصوصاً في فصول الشتاء الصعبة والصيف القائظة.
في حين يتحدث واقع هذه المناطق الجغرافية الكئيب عن أزمات مُمتدة ومُهمَلة والتي يبدو بعضها اعتيادياً، يقل الحديث عن الإرهاصات والعلاقات والقوى والفاعلين المنتجين لهذه الظروف المادية والمتخيلة لهذا التعتيم. يناغم التفكير من خلال التعتيم، أو بالأحرى التخيل من خلاله، ملاحظة العلاقات المعقدة التي تربطنا بالعالم المادي، والتي تجمعنا معاً أو تفصلنا عن بعضنا البعض. يدفعنا إلى طرح أسئلة مثل: كيف تستمر حيواتنا اليومية على هذا النحو من اللامساواة؟ كيف نعتمد على عمل ورعاية الآخرين؟ ومن هم؟ وفي أي علاقات قوة نحن متورطون؟ وعلى مستوى أهم، يدفعنا التعتيم إلى النظر بصراحة أكثر في حيواتنا المادية والبيئية؛ أي كيف تتشابك حيواتنا ومجتمعاتنا مع العالم المادي بمغزى سياسي؟ في النهاية، فإن مادية هذا العالم مهمة، فهي تُنظم وتربط وتكسر وتلغي. تُلحق المادية نفسها بمخيالات وآمال ووعود معينة، فضلاً عن مخلَّفات وأخطار وسُميّات، وبالتالي، فهي مقيدة بزمانيَّات غير خطية وبمكانيات وإيكولوجيات مُجزأة. نجد هذه المواضيع والأسئلة في صميم الدعوة التي وجهها محررو هذا العدد الخاص، وهو ما استجاب له المساهمون بطرق متنوعة. فمن خلال تتبع الحياة المادية والخيالية للبنية التحتية ومن قلب واقع التعتيم، يُسيّس هذا العدد الخاص والمساهمون فيه ما قد يبدو محايداً، أو خاملاً، أو قابعاً في الخلفية: الشبكات والكوابل والأعمدة والأنابيب والحجارة، والركام، والطرق والسدود والجسور، وأيضاً؛ حركة الناس وتداول البضائع والمعرفة ورأس المال.
في هذا العدد الخاص، تساعدنا الأعمال المنشورة ومناهجها وعدساتها على استخلاص حيوات البُنية التحتية في سياقات متنوعة من شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وهي سياقات غالباً ما تلقى اهتماماً ضئيلاً في الدراسات السائدة حول البُنية التحتية والبيئة. توفر المساهمات، وعلى نفس القدر من الأهمية، مساراً للعمل بشكل خلاّق نحو تحرير البنية التحتية من مراسيها الدراسيَّة الاختصاصية والمنهجية. وبعيداً عن التعلّق بفهم ضيق للبنية التحتية، تنتقي مساهمات العدد وجهات نظر متنوعة من قبل جغرافيين وعمرانيين ومعماريين ومصممين وصانعي أفلام ومعلَّمين وشعراء الذين غالباً ما يتنقلون بين الحدود الفاصلة بين الأكاديميا والفنون لسرد قصص عن حياتنا الحضرية. يساهم هذا الإنتاج المعرفي، وانطلاقاً من أحوال المنطقة وسياقاتها، في إعادة تقييم ماهية الأسئلة الضرورية في البحث المعاصر في البنية التحتية والعالم المادي. تُمشكل مساهمات العدد، على سبيل المثال، ذلك الوعد الحداثي للبنية التحتية للمستقبل، إذ تتشابك مع إرث الاستعمار المادي في أنحاء المنطقة. ويتم على صعيد آخر تناول موضوع ظاهرية وخفاء البنية التحتية بطرق تفنّد المقولة المعروفة بأننا لا نلحظ البنية التحتية إلا عندما تفشل. هكذا، وعند التفكير في التعتيم ، يتم قلب سؤال "ماذا يحدث عند فشل البنية التحتية" رأساً على عقب للنظر بدلاً من ذلك في كيف أن فشل البنية التحتية هو الغاية المرجوّة للتخلي والهجران "المُهندَس".
يشتمل العدد على أعمال لا تنظر إلى البُنى التحتية كعناصر مادية فحسب، بل كعلاقات اجتماعية مُجسَّدة، وتجارب وجدانية، ومستودعات للذاكرة، ومُجمّعات متنازعٍ عليها، فضلاً عن اعتبارها عدسة لفك التشابك بين المخيالات السياسية الفردية والجماعية. توفر هذه الأعمال مجتمعة رؤى قيّمة عن المنطقة ومساهمة هادفة في النقاشات العالمية الجارية حول البنية التحتية. وتعرض المجموعة على وجه الخصوص عدداً من الموضوعات التي نود تسليط الضوء عليها هنا:
أولاً، أن الالتفات إلى البنية التحتية والتمعّن في انقطاع الكهرباء هو في جوهره اشتباك مع فكرة المحو، لأننا لا نستطيع فهم البنية التحتية وتواطؤاتها السياسية دون الالتفات إلى علاقاتها مع أشكال متعددة من المحو، بما في ذلك العنف والتهجير والعزلة، وأشكال أخرى متدرجة ومجزأة من التعديل والتحوير. وبالتالي، فإن تتبع امتدادات البُنى التحتية يعني الاهتمام في ما تُقصيه وتستبدله وتعيد كتابته.
ثانياً، إن التركيز على البنية التحتية ونواحيها المادية يعني أيضاً التفكير في كيفية ارتباطها بالجسد. بعبارة أخرى، في كيفية شبك المستويات العامة المهيمنة للبنى التحتية بالممارسات اليومية للعيش مع (أو بدون) البنية التحتية ، وكل ما يتعلق بذلك من علاقات ضرورية للرعاية والصيانة والعمل والاستثمار والتكيف مع وجود وغياب البنية التحتية.
ثالثًا، إن استكشاف البُنى التحتية يعني أيضاً النظر في تشابكاتها البيئية: في التغييرات التي تُحدثها على المشهد الطبيعي، وفي طرق استغلال الطبيعة والسيطرة عليها، وفي أنظمة الاستخراج أو السموم والخراب التي قد تسببها.
أخيراً، يعتبر البحث الناقد لانهيار البنية التحتية بالضرورة تحقيقاً في أوجه محددة من القصور والثغرات، مثل علاقات التواطؤ والمساءلة، وكذلك مسؤولية وملكية هؤلاء العملاء المتورطين من قريب أو بعيد في الأشكال الحديثة من الخراب الاجتماعي والبيئي.
في العديد من مساهمات هذا العدد، يبقى المؤلفون مع السؤال عما يفعله الناس في ظل انقطاع الكهرباء؟ يحشد عدم اليقين حول المستقبل الفعل في الحاضر، أي في الـ 'هنا والآن'، وهو فعل قد يتراوح بين تسيير الحال وتدبّر الأمور حول مشكلة الاستنزاف والإحساس بالعزلة، أو التحايل عليها، وقد تشمل أيضاً وضع آليات للمقاومة والمنازعة. وهكذا تتناول المساهمات ممارسات مختلفة حول "التعتيم" بمعناه الواسع: من القرصنة والتحايل، والأرشفة وإحياء الذاكرة، والرواية السردية والشعرية، إلى المقاومة المنظمة من خلال المظاهرات والإضرابات. توفر هذه الممارسات الفردية والجماعية معاً وصفاً ثرياً وثاقباً لجغرافيات البنية التحتية المتقاطعة والمتفاوتة، ولإخفاقاتها ونقاط ضعفها. كما تقدم فهماً كيف أن البنى التحتية ـ بعيدًا عن كونها كيانات ثابتةـ هي بُنى مِطواعة، مُتشكلة ومتغيّرة ومُتحولة، ومُتنازع عليها.
ما توضحه المساهمات أيضاً وبحصافة هو كيف تعمل البنية التحتية على تعقيد مفاهيم الزمنيّة: أي كيف يتقاطع الماضي والحاضر والمستقبل وكيف تُنتَج الذاكرة حولهم، وهو ما يمكن أن نطلق عليه 'آثار البنية التحتية'. تغوص مقالات، على سبيل المثال، في إرث مشاريع بُنى تحتية سابقة، أو أخرى خُطّط لها إلا أنها لم تتحقق قط. يتتبع البعض الآخر مسارات وأزمنة لبُنى تحتية محددة مع فحص تحولاتها ومراحلها اللاحقة والآثار التي تتركها مادياً أو بيئياً أو وجدانياً. لذلك فإن ذاكرة البنية التحتية مهمة في فهم البيئة المبنية والعالم المادي. تتيح مقاربة ’آثار البنية التحتية‘ أيضاً التفكير بشاعرية وتخيل خيارات مختلفة لمستقبل وجغرافيا هذا الجزء من العالم: ماضية، أو بديلة، أو مستحيلة، أو منشودة. في الواقع، تأخذ بعض أعمال هذا العدد هذه الدعوة للتخيل على محمل الجد من خلال إعادة قراءة الماضي أو إعادة سرده من جديد.
في النهاية، يسأل هذا العدد بشكل جماعي: هل يمكننا أن نروي قصصاً عن البنية التحتية تشتبك من ناحية مع الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية غير المتكافئة والمعقدة في المنطقة، ومن ناحية أخرى لا تعزز التمثيلات الاستشراقية والقاتمة عن فضاءاتنا وأزمنتنا؟ من خلال مشاركتهم الناقدة والإبداعية، نعتقد بأن مساهمات هذا العدد تقدم إجابة أولية ولكن إيجابية. هناك تبعات سياسية عند رواية قصص انقطاع الكهرباء لدينا، وهذا العدد هو خطوة أولى هامة لزعزعة المعجم والقواعد اللغوية التي غالباً ما تُروى بها هذه القصص. لكن ما زلنا نواجه أعمال حذف وإغفال على الرغم من النوايا الحسنة: إذ سيلاحظ قرَّاء العدد غلبة المحتوى باللغة الإنجليزية. والأهم من ذلك، سيلاحظ القراء، كما فعل المحررون، كيف تعطي البُنى المعرفية السائدة المهيمنة الأفضلية لسرديات من مواقع جغرافية دوناً عن مواقع أخرى والتي تفتقر إلى الحد الأدنى من التمثيل. لذلك فإن للبُنى التحتية لإنتاج المعرفة وكتابتها ونشرها نقاط ضعف وأخطاء أيضاً، وهذا العدد ليس استثناءً. ومع ذلك، نأمل أن يكون لبعض الخيوط التي ينسجها هذا العدد أثر في تكوين صورة؛ وإن كانت جزئية وغير كاملة، حول كيف يتم إنشاء البنية التحتية، والتنازع عليها، وتخيلها في الجزء الذي نعيش فيه من هذا العالم.
* أسهم كاتبي هذا التقديم بشكل متساوٍ، واستمتعا بالعمل سوياً، وترتيب الأسماء لا يعبر إلا عن منطق الترتيب الأبجدى العائلى.
قراءات ذات صلة