الخرائط البديلة في العالم العربي: الفن المعاصر نموذجاً
وائل طحّان

كأنّها صحراء، موقع بين مدينتين، حقل، عراء أرضي. كأنّها ثكنة عسكرية، باحة داخل بناء محاط بأسوار مدرّعة. كأنّه موقع أثري، حضارة مستقبليّة، فوّهة قمريّة، جادّة أو جسر يصل بين كونين. كأنّها أنماط روبرت سميثسون الحلزونية منسيّة بين الرافدين. بل كأنّه العراق إبّان حرب الخليج أو بُعيد الغزو الأمريكي. مدنٌ جديدة تولد، ومدن تمّح، كلّما اقتربت الرؤية اضمحّل الموضوع. كلّ هذه المقاربات المكانيّة هي من فيديو لتتابع صور رقميّة بالأبيض والأسود من منظور طائرة يُعرض على إحدى جدران غرفة مظلمة في معرض فنّي. إنّه العمل الفني "مواقع الظل Shadow Sites" للفنانة العراقية جنان العاني الذي توظف الفنانة من خلاله المتخيّل البصري لرصد تداعيات الحرب على المدينة في ثنائية العمران والخراب، ورصد دور التطور التكنولوجي في تسريع عملية إعمار المدن بل وهدمها كذلك. غالبية الصور المكانية التي توالت وتداخلت في هذا العمل هي من الأرشيف وقد لا تتطابق البتّة مع حقيقة الواقع المكاني الراهن للمدن التي عملت الفنانة على تمثيلها بالخرائط (أي كارتوغرافياً) بتصوير رقمي من الأعلى. لكن، بالمقابل، هل ثمّة تمثيل حقيقي للمكان؟ وما السبيل إليه؟ هل نقل ما تقع عليه العين بحذافيره إلى إحدى الوسائط البصريّة هو عِيار لكمال التمثيل المكاني؟ أيّ نوع من الخرائط أو المخططات أو الرسومات كفيل بعرض حيادي ونزيه أو حتى ذاتي وموضوعي للأقاليم والمدن والأحياء والعلاقات المكانية الكائنة بين القاطنين من منظورهم هم؟ والأهم من هذا، من يملك السلطة والتحكّم بهذه التصورات ومن أين تستمد الخرائط الإقليمية والمحلية والعمرانية شرعيّتها؟
قد يكون المثال الذي استُهِلت به الدراسة أعلاه متطرّفاً في معالجته للمكان إن علمنا إقصاءه للعنصر البشري، ولو ظاهريّاً، لكنّه يندرج ضمن شريحة واسعة من أعمال كثيرة ومتعدّدة في أساليبها ومضامينها، والتي تتّخذ من الخرائط والمخططات العمرانية وشتّى التصورات المكانية مادّة لها، حيث تقوم بتوظيف اللغة الخرائطية وتربطها بمسائل وقضايا مكانيّة قلّما يتطرّق إليها الجغرافيّون والمعماريون أنفسهم. جدير بالتنويه هنا إلى عدد من النقاط الأولية والتي من شأنها تكوين المنهجيّة والقاعدة النظريّة لهذا الطرح، وتوضيح سياقه المعرفي وبالتالي الأغراض التي يتطلع إليها. أولاً، إنّ مثل هذه الأعمال، وإنّ سمّيت بالبديلة، لا تدّعي أو تفترض وجودها كمعوّض عن الممارسات المكانية التقليدية التي تقوم عليها حقول الجغرافيا والعمران بسائر تفرّعاتها، بل هي استكمالٌ لمسائلها وامتداد نقديّ لها عبر انفتاح على أولويّات مغايرة في معالجة المكان، مثل المعرفة الحسيّة والذاتية والانثروبولوجية والنضالية بوسائط بديلة. ثانياً، إنّ هذه الممارسات، وإن آثرنا في سياقنا الفن المعاصر، لا تنحصر على الفنانين فقط دون سواهم بل ثمة جغرافيون ومعماريون بل وحتّى فلاسفة ومتخصّصون من غير حقل باتوا يوظّفون الخرائط البديلة لعرض مسائلهم المختلفة بقالب مكاني لا يتّفقُ ضرورةً مع استخدامها التقليدي، بل كُلٌّ تبعاً لفرادة تخصّصه وأغراضه. هذا يأخذنا إلى النقطة الثالثة، أنّه وإن كانت الأعمال المعروضة في طرحنا هذا فنيّة بالمقام الأوّل، علينا التنويه بأنّها أعمال معاصرة بمنهجيّة عابرة للتخصّصات لا يقتصر بها المطاف إلى المعارض والمتاحف فحسب، بل إن عدداً كبيرا من هذه الممارسات يعير أهميّة بالغة لعمل الميدان وللتعاونات المحليّة ولخصوصيّة الموقع الموظَّف. رابعاً، التطرّق لهذه الظاهرة على أنها سلسلة من الممارسات الفنيّة التي توظّف الخريطة كأداة بديلة لمعرفة مكانيّة حسيّة تضع قلق المواطن المعاصر في محور هاجسها عوضا عن التمثيل الأرضي داته، فإن هذا التعريف الشامل لا يعني أنّ الأعمال التي تندرج في هذا السياق تنتمي بأي شكل إلى حقبة أو مدرسة فنيّة أو نقدية بمعايير واضحة ومُعرّفة مسبقا، بل سنجد في عدد كبير من الأمثلة تبايناً واضحا في منهجيّة وأساليب هذه الممارسات. أخيراً، للاختصار ولدواعي لغويّة لا مكان لتفصيلها، إنّ ذكر كلمة خرائط في قولنا يشمل مبدئيا كافة أنواع المخططات المكانيّة من خرائط جغرافية وطوبوغرافيّة ومخططات حضريّة ومعمارية ورسومات مكانيّة توثيقيّة أو تجريبية، على أن يُحدّد في الأمثلة المذكورة شكل الوسائط المستخدمة لتحرّي الدقّة. انطلاقا من هذا الهيكل النظري، سنحاول تسليط الضوء على بعض الممارسات الخرائطية البديلة في سياق المدينة العربية عبر دراسة امتداد هذه الظاهرة إلى حقول الفن المعاصر وتداعيات هذا المدّ المعرفي على الممارسات العمرانية التقليدية. لكن كيف بدأت هذه الأعمال الخرائطيّة-الفنيّة وما هي قيمها النظرية والعملية على حد سواء؟ وكيف وجد الفنان المعاصر نفسه اليوم بلباس الجغرافي أوالمخطط الحضريّ والمعماريّ بل والناشط الميدانيّ أيضاً؟ لنعود قليلاً إلى الوراء.
"المنعطف المكاني"
في مطلع الستينيات، قدم الجغرافي الأمريكي ذو النزعة الماركسية إدوارد سوجا القاعدة النظرية لما سيعرف فيما بعد بـ"المنعطف المكاني" أو "Spatial Turn"، وهو الأخذ بأهميّة المكان كمفهوم لتفسير ومعالجة مختلف الظواهر الاجتماعية والإنسانيّة.
امتدت هذه النظريات وتوسعت لتشمل حقول الأدب والفن حتى تفسّر دور وأهميّة "المكانيّة" في حقول الإبداع والابتكار كنوع من الممارسات الملتزمة والنقديّة.
الخرائط الفنية كأداة عرض وسرد بديلين
من أبرز قضايا الممارسات الخرائطية البديلة هي إعادة إنتاج العلاقات والمقاربات بين المكان وطرق تصويره أو تمثيله أو التعبير عنه (خرائط، أطلس، مخططات، رسم ثلاثي الأبعاد، إحصاءات بيانية، صور من أعلى، مجسّمات، تكبير مخبري، المكان الافتراضي أو الرقمي...). لكن بعيداً عن القيمة التقريبية أو التشبيهية، فإنّ الغرض منها لم يكن بشكل من الأشكال إنتاج نسخة كربونيّة أو محاكاة طبق الأصل للمكان أو للموقع المرجعي وإنّما إعادة توظيف هذه الأدوات لتوليد نقاشات وتآويل ومعارف وحقائق مكانية بديلة لا سبيل للوصول إليها عبر الخرائط الجغرافيّة والمعماريّة البحتة، أو لنقُلْ المؤسّساتيّة.
لنأخذ على سبيل المثال عمل الفنانة الفرنسية/المغربية بُشرى خليلي التي رصدت من خلاله تحرّك ثمانية نازحين كانوا قد أُجبروا على الرحيل من بلدانهم لأسباب مختلفة لكي يلجأوا إلى أوروبا. يتكوّن تنصيب العمل من شاشات كبيرة يعرض على كل شاشة فيديو لخريطة يرسمها اللاجئ بيده وهو يصف بصوته الطرق التي سلكها من موطنه الأصلي إلى السواحل الأوروبيّة مرورا بالأبيض المتوسط وتنقّله بين مختلف العواصم طلباً للجوء. التجربة هنا ذاتيّة على مقاس الفرد، لا الدُّول ولا الحدود ولا المطارات ولا الموانئ ولا المعابر الرسميّة، ما يراه اللاجئ باستشفافه الرحلة التي سلكها على الخريطة غير ما نراه نحن، الخريطة غير الخريطة، الأرض غير الأرض، المتوسط غير المتوسط، ليبيا التي يعبر بقلمهِ فوقها غير ليبيا التي نعرفها وكذلك تونس ومالطا وصقلية وسائر أرجاء الاتحاد الأوروبيّ. الخريطة تستعيد الخوف باستدعائها الذاكرة. لكل لاجئ أوديسيته الذاتية لا عائداً إلى موطنه هذه المرّة بل فارّاً منه. الخريطة لم تعد هنا أداة لاستكشاف الطريق أو التعرف عليه، بل استعادته. منطق المكانيّة تبدّل بتحوّل الخريطة من مادّة دلاليّة إلى مادّة سرديّة وسينماتوغرافيّة بل وشاعريّة بامتياز. فكيف لخريطة مؤسّساتيّة واحدة أنّ تختزل كل هذه التجاريب الذاتيّة والتوترات المكانيّة بعرضها لبحر أبيض متوسّط واحد جاث على سواحل المدن أوّلهُ كآخره؟ ما يميز الخرائط البديلة هو فهمها للمكان لا كهيكل ثابت من الإحداثيات والمعطيات المساحيّة والبنيانية والجيولوجية بل كسلسلة من المتغيّرات والمتحرّكات دائمّة التشكّل: إمّا بحقيقتها أو بشكل موضوعيّ. هذا ما أكدّه جيل ديلوز بتطرّقه للحركة كمفهوم خرائطي بحت، الخريطة بالنسبة له هي ذاتها "حركة" ومولّدة للحركة، إنهّا تعبّر عن هويّة الطريق وسالكه إذ تتداخل الخريطة بموضوعها مذ كان موضوعها الأوليّ مبنيّ على الحركة.
الخرائط الفنية كنقد عمراني بديل
إنّ عمل بشرى خليلي يحيلنا تلقائيّا إلى عمل آخر لا يقلّ فرادة وهو Ground Plan Drawingsلفاوندلاند كوليكتيف Foundland Collective لكن على نطاق مكاني أضيق هذه المرة. فإن كان عمل بشرى خليلي يتّسم بطابع جغرافي عابر للقارات فإنّ منحى فواندلاند هو عمرانيّ بالدرجة الأولى. قام عمل هذا الفريق المتمّيز، المكون من الفنانة السورية غالية السراقبي والفنانة الجنوب إفريقية لورين أليكزاندر، على إعادة رسم مخططات عمرانية لبيوت ومساكن لاجئين انتقلو إلى أوروبا من سوريا بعد الأزمة الأخيرة. الجدير بالذكر أنّ هذه المخططات العمرانيّة هي لبيوت موجودة اليوم في سوريا، أو لأجزاء مما بقي منها، رسمها اللاجئون/القاطنون الحقيقيون لتلك البيوت باستدعائهم لحذافير المكان من الذاكرة والمتخيّل الفردي صرفاً. المعماريُّ هنا هو ساكن البيت ذاته يأخذ مقاساته المساحية بمساطر الذاكرة. هذه المخططات لا تَعرض لحظة زمنية محدّدة من عمر البيت على غرار المخططات العمليّة بل يعرض المخطط الواحد منها فترات زمنيّة وحسيّة متعدّدة ومتراكمة نقرأ في تعاقبها أحوال طرأت على المنزل من خراب وترميم وبناء وتعديلات وعلاقات بشريّة سُجّلت بسرد معماريّ فريد. إن عمل فاوندلاند كوليكتيف هو مثال لعدد واسع من الأعمال الخرائطية الفنية التشاركية Participatory التي تم تنفيذها في المنطقة العربية مع لاجئين ونازحين، نذكر منها على سبيل المقاربة عمل تيل رويسكينز (Till Roeskens, Aida, 2009) لرصد تحركات اللاجئين الفلسطينيين وحياتهم اليومية في خريطة لمخيم قرب بيت لحم، وعمل الفنان المكسيكي إيزديرو لوبيز أباراثيو (Isdiro Lopez-Aparacio, Mapping Refugee Camps, 2018) والذي قام من خلاله بعمل خرائطي لمخيم الزعتري مع عدد من اللاجئين السوريين في الأردن.

إن العامل المنهجي الذي يجمع بين هذه الأعمال هو التركيز على الرسم الحر، لا كأداة للإبداع أوالمحاكاة المكانية فحسب، بل كواسطة للتواصل تسمح في كثير من المواقف بتجاوز عائق اللغة لتصوير وترسيخ المعرفة الحسية للمكان. وقد أشار العديد من نقّاد ومنظرو هذه الممارسات التشاركية إلى أنّ إنتاج خرائط مكانية مبنية على الرسم الحر بين أفراد منطقة معينّة إنمّا هو بالغ في الأهميّة ويعتبر بمثابة شهادات مكانية ذاتيّة قابلة للاستثمار في عديد من الدراسات التحليلية والإحصائية للمكان.

يتجسّد هذا المعنى بعدد واسع من الأعمال الفنية التي تتخذ من العمران ومخططاته أداة لها لتوظيف مضامين نقديّة لا تتّصل في جوهرها بمعنى من معاني البنيان وربّما تقوم على فكرة مضادة له تماماً، مثل الفراغ كما نرى بعمل "بدون عنوان" (٢٠٠٩) للفنان الجزائري/الفرنسي قادر عطيّة، والذي شكّل من حبّات الكسكس المطهوّة مخططاً لمدينة غرداية الجزائرية تظهر عبره المساحات المخصصة للعمارات خاويةً من مبانيها. هذا العمل المناقض للبنيان يقدم في كليّته مساحة لتأمّل الأثر العكسي للاستعمار على نظريات العمران الأوروبية الحديثة في منتصف القرن العشرين. أو ربّما، في مثال آخر، كفكرة الخراب التي نجدها في عمل الفنان الفرنسي إيمانويل توسور المعنون "بيت - دراسة لصابونة". يتشكّل العمل من عدد هائل من مكعّبات نوع محدّد من صابون الغار معروف بصابون حلب، نَحَتَ به الفنان عمله المكوّن من مدينة كاملة تتشكّل من عمارات منكوبة يطغى عليها طابع الخراب. الصابون هنا رمز للحضارة، كما يعبّر توسور نفسه بقوله أن الإنسان الأوّل احتاج التواصل فاخترع اللغة مثل اختراعه الصابون وقتما اضطّر للاستحمام.

إنّ هذه القيمة غير البصريّة للتمثيل المكاني في هذا العمل والتي تتجلّى بالرائحة، رائحة صابون الغار الحلبي، وتستهدفّ حاسّة الشمّ، إنّما هي محور وركيزة أساسيّة لهذا العمل الذي يعوّل على نقل هويّة المكان ليس بهيئته البصريّة وحسب والتي قد تجانب الدقّة وتختلط على الشهود سيّما في حرب طاحنة كهذه، بل بهويته غير المادية أيضاً والتي تجسّد روح المكان المحمّلة بأرتال الذكريات الفرديّة والجمعيّة. حلب وإن جُسّدت بمبانٍ خرابٍ وأحياء مشوّهة أقرب ما تكون إلى هياكل أثريّة منها إلى حلب التي عرفناها قبل الحرب، إلّا أنّ الغار يتضوّع على حاله كأنّهُ ما زال على ما يرام، لم يمسسه دمار ولن تختلط عليه الأحياء. إنّ عمل توسور العابر للدلالات يقدّم منهجاً معمارياً فريداً في تقصّي المكان ومسحه حسيّاً أن طالما هُمّشت القيم غير الماديّة في الممارسات العمرانيّة مثل حاسّة الشم أو السمع أو غيرها من القيم غير المرئية.
الخرائط الفنية كنشاط سياسي بديل
إنّ عمل توسور الصابوني باقتدار ليس يتيماً في سلسلة الممارسات التي تعمل على المنطقة العربية، بل هذا يحيلنا إلى عمل مشابه في منتصف التسعينيات للفنانة الفلسطينية القديرة منى حاطوم المعنون بـ Present Tense. على ٢٢٠٠ مكعّب من صابون زيت الزيتون القادمة من نابلس والمرصوفة جنباً إلى جنب لتشكّل قاعدة لخلفيّة ترسم عليها خريطة فلسطين أو الخريطة التي كان من المفترض أن تكون لفلسطين حسب حدود اتفاقيّة أوسلو ١٩٩٣. الخريطة الممتدّة على هذا الكم الهائل من مكعبات الصابون تكاد لا تقرأ بسبب الفجوات التي خلّفها التركيب غير الهندسي للصابون ناهيك عن مسطّحه غير المستوي والذي يحيل بدوره، كحال العنوان الذي يشير إلى "الحاضر الصرف"، إلى الطبيعة الهشّة واللامستقرّة لحدود فلسطين ومنطقة الشرق الأدنى عامّة. إن كان عمل توسور الصابونيّ يتطرّق للذاكرة والهويّة اللاماديّة للمكان، فإن عمل منى حاطوم يندرج في نطاق أوسع سواء على الرقعة الجغرافيّة للعمل أو بتبنّيه لموقف سياسي لا ينفصل بأي حال عن العمل ذاته. إنّ هذا النشاط السياسي هو حجر الأساس للمارسات المكانية إمّا تلك التي اتخذت من فلسطين موضوعاً لها أو تلك التي نُفّذت كردّة فعل للتغيرات المكانيّة التي أسفر عنها الربيع العربيّ في عدد من بلدان المنطقة.

في كتابه "حين يخلط الربيعُ الخرائط"، تحدّث المحلل السياسي مارك غوتاليه عن أثر الربيع العربي في خلق علاقات وممارسات مكانية خلّاقة عند مواطني بلدان الربيع ربّما تسهم فيما بعد برسم خارطة جديدة للمنطقة ليس بالمعنى الجيوسياسي وحسب، بل أيضا خرائط داخلية على مستوى الهويّة والذاكرة والتجربة الفردية والجمعية.
هذا التوجّه استلزم تغيرالأدوات الخرائطية بل وأيضاً مقياس الخريطة بالتناسب مع الموقع المدروس، حتى أن وصل المطاف بممارسات كارتوغرافيّة بمقياس ١:١ أي أنّها تتناسب بشكل تام مع التجربّة الحقيقية للإنسان على سطح الأرض، بل إنّ الخريطة هنا هي ذات الأرض. تقول القاعدة الخرائطية، تبعاً للاكوست، أن كلّ تغير في القياس يتبعه تغيّر بمستوى التحليل، فالمراد من هكذا ممارسات هو أن يتحقّق فهم الفرد للمكان المدروس بناء على التجربّة الذاتيّة وملامسة الواقع المكاني بالجسد مباشرة بما لا يحيل إلى أيّ واسطة أخرى من تمثيلات بصريّة أو تقريبات غرافيكيّة.
لقد ساهمت هذه الممارسات بنشوء ظاهرة الفنّان-المشّاء في الفن المعاصر، وهو الفنان بزيّ الكارتوغرافيّ الذي أخذ على عاتقه إنتاج خرائطه مشياً، وقد استفاضت كارين أوروركي بشرح هذه الظاهرة.

الحقّ أنّ الظواهر والممارسات الكارتوغرافيّة في الفن المعاصر مازالت قيد التشكّل والنموّ لا بل والتجدّد عملاً بعد عمل مما لا يرتقي بالقول هنا إلى مراتب الحُكم أو الاعتبار. بل هو نشاط خرائطيّ-فنيٌّ عابر في منهجه للتتخصصات والدلالات ومنفتح على عدد ليس بقليل من حقول المعرفة الإنسانية والاجتماعية، ليس فقط بدلْوِها النظريّ بل أيضاً بمساهمات عمليّة وتعاونيّة على الأرض تُعنى بالمكان بمقاسه الإنساني لا المؤسّساتي. وقد آثرنا بطرحنا هذا عرض الخلفيّة النقديّة والقاعدة النظريّة لهذه الظاهرة وتفصيل عدد من أدوات تنفيذها عبر تحليل بعض الأعمال الفنية، ظنّاً أن مثل هذه الممارسات والتعاونات لاسيّما في حيّز المدينة العربية هي فرصة لإلهام وتشجيع وخلق قاعدة من المشاريع والتعاونات الجغرافيّة والمعمارية والفنيّة بل والنضالية القادرة على توصيفات جديدة لمختلف التحديّات المكانية للمواطن العربي دون ضرورة الخوض في أبهاء السياسة الهرميّة.
-
Soja, Edward W. 1989. Postmodern Geographies. The Reassertion of Space in Critical Theory. London: Verso: 16. ↩
-
Deleuze, Gilles and Felix Guattari. 1980. Mille Plateaux. Paris: Éditions Minuit: 20; Foucault, Michael. “Des espaces autres”. Architecture, Mouvement, Continuité: n. 5 (1984): 46-49.
↩ -
Besse, Jean-Marc. 2007. Finis terrae. Paris: Bayard: 11. ↩
-
Vidal, Paul. “Des caractères distinctif de la géographie”. Annales de Géographie: n. 124 (1913): 295. ↩
-
Said, Edward. 1978. L’orientalisme. L’Orient créé par l’Occident. Paris: Le Seuil: 578. ↩
-
Péaud, Laura. “Les apports de la philosophie à la pensée géographique de l’espace”. Géographie et Cultures: 100 (2015): 81-96. ↩
-
Caillet, Aline. “Le trournant spatial de l’art : quand l’artiste se fait cartographe”. 303 Trimestriel : Carte et cartographe: 133 (2014): 50. ↩
-
Quiros, Kantuta and Aliocha Imhoff, ed. 2016. Géo-Esthétique. Paris: B24: 8.
↩ -
Lippard, Lucy. 1983. Overlay. New York: Pantheon Book: 122. ↩
-
Watson, Ruth. “Mapping and Contemporary Art”. The Cartographic Journal: Vol. 46: n. 4 (2009): 293. ↩
-
Mesquita, André. “Counter-Cartographies Politics, Art and the Insurrection of Maps,” in This Is Not an Atlas, ed. Kollektiv Orangotango+. A Global Collection of Counter Cartographies (Open Sources, 2008): 26. ↩
-
Deleuze, Gilles, Critique et Clinique. Paris: Éditions Minuit: 196. ↩
-
Rekacewicz, Philippe and Tratnjek Bénédicte, « Cartographier les émotions », Carnets de géographes: n. 9 (2016); Mekdjian, Sarah and Marie Moreau, “Re-Drawing the Experience: Art, Science and Migratory Conditions”, antiAtlas Journal: 01 (2016). ↩
-
من مقابلة مع الفنان على موقع Fisheye بعنوان “Shooter un batiment architectural” ↩
-
Goutalier, Marc. 2017. Quand le printemps brouille les cartes. Paris: Éditions Felin: 5. ↩
-
Lacoste, Yves. 1976. La Géographie, ça sert, d’abord, à faire la guerre. Paris: La Découverte: 65. ↩
-
O’Roukre, Karen. 2013. Walking and Mapping: Artists as Cartographers. Cambridge: MIT Press. ↩
عن الكاتب
وائل طحّان هو شاعر سوري وباحث في الفن المعاصر في منطقة الشرق الأوسط، مقيم في باريس حيث يعدّ رسالة الدكتوراه في الجماليات والنظرية النقديّة في جامعة باريس الأولى بانتيون-سوربون.
قراءات ذات صلة